القلـب السليـم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وبعد:
فما أحوجنا هذه الأيام، التي تلاطمت فيها أمواج الفتن بالمسلمين، أن يُذكِّر بعضنا بعضًا ويأخذ كل منا بيد أخيه، فقد انتشرت ظاهرة سوء الظن بين كثير من المسلمين، ولذا رأيت أن من حق إخواني عليَّ أن أُذِّكرهم بحقيقة القلب السليم، الذي ذكره اللَّه في كتابه، فأقول وبالله التوفيق:حقيقة القلب السليم قال تعالى: )ولا تخزني يوم يبعثون (87) يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم.(
[الشعراء: 87، 89
قال ابن القيم رحمه الله: القلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرئاسة، فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطع عن الله. ولا تتم له سلامته مطلقا حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص. وهذه الخمسة حجب عن الله، وتحت كل واحدة منها أنواع كثيرة، تتضمن أفرادا لا تنحصر. ولذلك اشتدت حاجة العبد، بل ضرورته، إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم، فليس العبد أحوج منه إلى هذه الدعوة، وليس شيء أنفع له منها.
الجواب الكافي لابن القيم / ص 151
لماذا سلامة القلب؟
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: )إن في الجسد مضغة إذا صلحت، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ( .
البخاري حديث / 52] [مسلم حديث / 1599
قال الإمام النووي: في هذا الحديث تأكيد على السعي في صلاح القلب وحمايته من الفساد.
مسلم / ح746
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: سمي القلب قلبا لتقلبه في الأمور، أو لأنه خالص ما في البدن، وخالص كل شيء قلبه، أو لأنه وضع في القلب مقلوبا، وقال رحمه الله: وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير، تصلح الرعية، وبفساده تفسد. وفي هذا الحديث تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه.
فتح الباري 1/156
سلامة قلب النبي صلى الله عليه وسلم:
قال تعالى مادحا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: )وإنك لعلى خلق عظيم ( .
القلم: 4
عن سعد بن هشام بن عامر أنه قال لعائشة رضي الله عنها: (أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن).
مسلم / ح746
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت، فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، فناداني ملك الجبال فسلم علي، ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا).
البخاري / ح3231 مسلم / ح 1795
انظر أخي الكريم: إلى سلامة قلب النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يغضب لنفسه ولم يبغض أحدا لذاته، إنما كان أمره لله تعالى وحده. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كأني انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).
البخاري / ح3477 مسلم / ح 1792
قال ابن القيم رحمه الله: تأمل حال النبي صلى الله عليه وسلم إذ ضربه قومه حتى أدموه فجعل يسلت الدم وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. كيف جمع في هذه الكلمات أربعة مقامات من الإحسان، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه:
أحدها: عفوه عنهم.
الثاني: استغفارهم لهم.
الثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون.
الرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه
فقال: اغفر لقومي.
كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به هذا ولدي، هذا غلامي، هذا صاحبي فهبه لي.
بدائع الفوائد لابن القيم 2/243، 244
منقول